فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَمَّا الذين فَسَقُوا} أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وارتكبوا المعاصي {فَمَأْوَاهُمُ} أي فمسكنهم ومحلهم {النار} وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفًا فيما يكون ملجأ للشخص ومستراحًا يستريح إليه من الحر والبرد ونحوها فإذا أريد هنا يكون في الكلام استعارة تهكمية كما في قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بعَذَابٍ أَليمٌ} [آل عمران: 21]، وجوز أن يكون استعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر {فَمَأْوَاهُمُ النار} {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ منْهَا أُعيدُوا} استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى: {جدَارًا يُريدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] على ما قيل، والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها، فقد روي أنهم يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدًا، وقيل: الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفًا أي كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها، ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى: {فيهَا} دون إليها، أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها، وأيًا ما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين منَ النار} [البقرة: 167] {وَقيلَ لَهُمْ} تشديدًا عليهم وزيادة في غيظهم.
{ذُوقُوا عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ به} أي بعذاب النار {تُكَذّبُونَ} على الاستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر، وذكر ابن الحاجب في أماليه وجهًا آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذٍ مقدمًا عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل إخبارًا عن أحوالهم، ونظر فيه الطيبي عليه الرحمة بأن هذا القول داخل أيضًا في حيز الإخبار لعطفه على {أُعيدُوا} الواقع جوابًا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضًا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف.
ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه.
وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلابد من مرجح.
وقال بعض المحققين: أراد ابن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرًا إلى ذاتها ونظرًا إلى سياقها أما الأول: فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار، وأما الثاني: فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار جائز وأنه رجح الإظهار اقتضاء السياق لذلك.
ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل: إنه تعالى قال هاهنا {ذُوقُوا عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ به تُكَذّبُونَ} وقال سبحانه في آية أخرى: {عَذَابَ النار التي كُنتُم بهَا تُكَذّبُونَ} [سبأ: 42] فذكر جل وعلا هاهنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار هاهنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل.
{وَلَنُذيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى} أي الأقرب، وقيل: الأقل وهو عذاب الدنيا فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، واختلف في المراد به فروى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن مسعود أنه سنون أصابتهم، وروي ذلك عن النخعي ومقاتل، وروى الطبراني وآخرون وصححه والحاكم عن ابن مسعود أيضًا أنه ما أصابهم يوم بدر.
وروي نحوه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما بلفظ هو القتل بالسيف نحو يوم بدر، وعن مجاهد القتل والجوع.
وأخرج مسلم وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة في صحيحه، وغيرهم عن أبي بن كعب أنه قال: هو مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان، وفي لفظ مسلم أو الدخان.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أنه قال: هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها، وفي رواية عنه وعن الضحاك وابن زيد بلفظ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال، وفي معناه ما أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال: سألت عبادة بن الصامت عن قوله تعالى: {وَلَنُذيقَنَّهُمْ} الآية فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال عليه الصلاة والسلام: هي المصائب والأسقام والآصار عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا؟ قال: زكاة وطهور، وفي رواية عن ابن عباس أنه الحدود.
وأخرج هنا عن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر، وحكي عن مجاهد أيضًا {دُونَ العذاب الاكبر} هو عذاب يوم القيامة كما روي عن ابن مسعود وغيره، وقال: ابن عطية لا خلاف في أنه ذلك، وفي التحرير إن أكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار، وقيل: هو القتل والسبي والأسر، وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أنه خروج المهدي بالسيف انتهى، وعليهما يفسر العذاب الأدنى بالسنين أو الأسقام أو نحو ذلك مما يكون أدنى مما ذكر، وعن بعض أهل البيت تفسيره بالدابة والدجال، والمعول عليه ما عليه الأكثر.
وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة {الاكبر} أو الأبعد في مقابلة {الادنى} لأن المقصود هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر وبالكبر لا بالبعد، قاله النيسابوري ملخصًا له من كلام الإمام، وكذا أبو حيان إلا أنه قال: إن الأدنى يتضمن الأصغر لأنه منقض بموت المعذب والأكبر يتضمن الأبعد لأنه واقع في الآخرة فحصلت المقابلة من حيث التضمن وصرح بما هو آكد في التخويف {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} أي لعل من بقي منهم يتوب قاله ابن مسعود، وقال الزمخشري: أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله تعالى: {فارجعنا نَعْمَلْ صالحا} [السجدة: 12] وسميت إرادة الرجوع رجوعًا كما سميت إرادة القيام قيامًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] ويدل عليه قراءة من قرأ: {يَرْجعُونَ} على البناء للمفعول انتهى.
وهو على ما حكي عن مجاهد وروي عن أبي عبيدة فيتعلق {لَعَلَّهُمْ} الخ بقوله تعالى: {وَلَنُذيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} (السجدة؛ 12) كما في الأول إلا أن الرجوع هنالك التوبة وههنا الرجوع إلى الدنيا ويكون من باب {فالتقطه ءالُ فرْعَوْنَ ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] أو يكون الترجي راجعًا إليهم، ووجه دلالة القراءة المذكورة عليه أنه لا يصح الحمل فيها على التوبة، والظاهر التفسير المأثور، والقراءة لا تأباه لجواز أن يكون المعنى عليها لعلهم يرجعهم ذلك العذاب عن الكفر إلى الإيمان، و{لَعَلَّ} لترجي المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه، وعن ابن عباس تفسيرها هنا بكى وكأن المراد كي نعرضهم بذلك للتوبة، وجعلها الزمخشري لترجيه سبحانه ولاستحالة حقيقة ذلك منه عز وجل حمله على إرادته تعالى، وأورد على ذلك سؤالًا أجاب عنه على مذهبه في الاعتزال فلا تلتفت إليه، هذا والآيات من قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمنًا كَمَن كَانَ فَاسقًا} (السجدة؛ 18) إلى هنا نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة لعلي كرم الله تعالى وجهه أنا أحد منك سنانًا وأبسط منك لسانًا واملأ للكتيبة منك فقال علي رضي الله تعالى عنه: اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت {أَفَمَن كَانَ مُؤْمنًا}. إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحو ذلك، وأخرج هذا أيضًا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد بن عقبة ولم يذكر ما جرى، وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ورجل من قريش ولم يسمه، وفي الكشاف روى في نزولها أنه شجر بين علي رضي الله تعالى عنه والوليد بن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي أنا أشب منك شبابًا وأجلد منك جلدًا وأذرب منك لسانًا وأحد منك سنانًا وأشجع منك جنابًا وأملأ منك حشوًا في الكتيبة فقال له علي كرم الله تعالى وجهه: اسكت فإنك فاسق فنزلت، ولم نره بهذا اللفظ مسندًا، وقال الخفاجي: قال ابن حجر إنه غلط فاحش فإن الوليد لم يكن يوم بدر رجلًا بل كان طفلًا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكر.
ونقل الجلال السيوطي عن الشيخ ولي الدين هو غير مستقيم فإن الوليد يصغر عن ذلك، وأقول: بعض الأخبار تقتضي أنه لم يكن مولودًا يوم بدر أو كان صغيرًا جدًا، أخرج أبو داود في السنن من طريق ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبد الله الهمداني عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رءوسهم فأتى بي إليه عليه الصلاة والسلام وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق إلا أن ابن عبد البر قال: إن أبا موسى مجهول، وأيضًا ذكر الزبير وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الهدنة سنة سبع خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها، وهو ظاهر في أنه لم يكن صبيًا يوم الفتح إذ من يكون كذلك كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح، وبعض الأخبار تقتضي أنه كان رجلًا يوم بدر، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحرث بن أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف وقال: حكاه أهل المغازي ولم يتعقبه بشيء، وسوق كلامه ظاهر في ارتضائه ووجه اقتضائه ذلك أن ما تعاطاه من أفعال الرجال دون الصبيان، وهذا الذي ذكرناه عن ابن حجر يخالف ما ذكره عنه الخفاجي عليه الرحمة مما مر آنفًا، ولا ينبغي أن يقال: يجوز أن يكون صغيرًا ذلك اليوم صغرًا يمكن معه عادة الحضور فحضر وجرى ما جرى لأن وصفه بالفسق بمعنى الكفر والوعيد عليه بما سمعت في الآيات مع كونه دون البلوغ مما لا يكاد يذهب إليه إلا من يلتزم أن التكليف بالإيمان إذ ذاك كان مشروطًا بالتمييز، ولا أن يقال: يجوز أن تكون هذه القصة بعد إسلامه وقد أطلق عليه فاسق وهو مسلم في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسقُ بنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن} [الحجرات: 6] فقد قال ابن عبد البر: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أنها نزلت فيه حيث أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مصدقًا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة ولم يكن الأمر كذلك لأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر وهناك ليس كذلك، ثم اعلم أن القول بأنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد لكلام جرى يوم بدر يقتضي أنها مدنية والمختار عند بعضهم خلافه.
{وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن ذُكّرَ بآيات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيان إجمالي لمن قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، وكلمة {ثُمَّ} لاستبعاد الإعراض عنها عقلًا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في قول جعفر بن علية الحارثي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ** يرى غمرات الموت ثم يزورها

والمراد أن ذلك أظلم من كل ظالم {إنَّا منَ المجرمين} قيل: أي من كل من اتصف بالإجرام وكسب الأمور المذمومة وإن لم يكن بهذه المثابة {مُنتَقمُونَ} فكيف ممن هو أظلم ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرمًا من كل جازم، ففي الجملة إثبات الانتقام منه بطريق برهاني.
وجوز أن يراد بالمجرم المعرض المذكور وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى {منْ} باعتبار معناها وكان الأصل أنا منهم منتقمون ليؤذن بأن علة الانتقام ارتكاب هذا المعرض مثل هذا الجرم العظيم: وفسر البغوي المجرمين هنا بالمشركين.
وقال الطيبي عليه الرحمة بعد حكايته: ولا ارتياب أن الكلام في ذم المعرضين وهذا الأسلوب أذم لأنه يقرر أن الكافر إذا وصف بالظلم والإجرام حمل على نهاية كفره وغاية تمرده ولأن هذه الآية كالخاتمة لأحوال المكذبين القائلين: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} والتخلص إلى قصة الكليم مسلاة لقلب الحبيب عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ما ذكره فليراجع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمنًا كَمَنْ كَانَ فَاسقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}.
فُرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البَون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكانَ الإنكار موجهًا إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني.
والكاف للتشبيه في الجزاء.
وجملة {لا يستوون} عطف بيان للمقصود من الاستفهام.
والفاسق هنا هو: مَن ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده {وقيل لهم ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذبون} فالمراد: الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن.
ثم أكد كلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة، فجملةُ {فلهم جنات المأوى} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فلا تعلم نفس ما أخْفي لهم} [السجدة: 17] إلى آخرها.
وجملة {فمأواهم النار} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إلى بما كنتم تعملون} [السجدة: 14].
و{مَن} الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله: {أمَّا الذينَ آمنوا}. إلخ.
و{أما الذين فسقوا}.
فليست الآية نازلة في معيَّن كما قيل.
والمأوى: المكان الذي يُؤْوَى إليه أي يُرجع إليه.
والتعريف باللام فيه للعهد أي مأوى المؤمنين قال تعالى: {عندها جنة المأوى} [النجم: 15].
ولك أن تجعل اللام عوضًا عن المضاف إليه، أي مأواهم بقرينة قوله في مقابله: {فمأواهم النار} وإضافة {جنات} إلى {المأوى} من إضافة الموصوف إلى الصفة لقصد التخفيف وهي واقعة في الكلام وإن اختلف البصريون والكوفيون في تأويلها خلافًا لا طائل تحته، وذلك مثل قولهم: مسجد الجامع، وقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي} [القصص: 44]، وقولهم: عشاء الآخرة.
والمعنى: فلهم الجنات المأوى لهم، أي الموعودون بها.
وانتصب {نزلًا} على الحال من {جنات المأوى} والنُزُل بضمتين مشتق من النزول فيطلق على ما يُعد للنزيل من العطاء والقرى قال في الكشاف: النزل: عطاء النازل، ثم صار عامًا، أي: يطلق على العطاء ولو بدون ضيافة مجازًا مرسلًا.
قلت: ويطلق على محل نزول الضيف ولأجل هذه الإطلاقات يختلف المفسرون في المراد منه في بعض الآيات رعيًا لما يناسب سياق الكلام.
وفسره الزجاج في هذه الآية ونحوها بالمنزل، وفسره في قوله تعالى: {أذلك خيرٌ نُزُلًا أم شجرة الزقوم} [الصافات: 62] فقال: يقول أذلك خير في باب الأنزال التي تمكن معها الإقامة أم نُزل أهل النار وقد تقدم في آخر سورة آل عمران (163)، والباء في {بما كانوا يعملون} للسببية.
وقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} تقدم نظيره في سورة الحج (22).
ويتجه في هذه الآية أن يقال: لماذا أُظهر اسم النار في قوله: {ذُوقُوا عذاب النار} مع أن اسم النار تقدم في قوله: {فمأواهم النار} فكان مقتضى الظاهر الإضمار بأن يقال: وقيل لهم ذوقوا عذابها.
وهذا السؤال أورده ابن الحاجب في أماليه وأجاب بوجهين: أحدهما أن سياق الآية التهديد وفي إظهار لفظ النار من التخويف ما ليس في الإضمار، الثاني: أن الجملة حكاية لما يقال لهم يومئذ فناسب أن يحكى كما قيل لهم وليس فيما يقال لهم تقدُّم ذكر النار.
{وَلَنُذيقَنَّهُمْ منَ الْعَذَاب الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (21)}.
إخبار بأن لهم عذابًا آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا.
والمقصود من هذا: التعريضُ بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم.
وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما مُحنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل.
وجملة {لعلهم يرجعون} استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان.
والمراد: رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم.
وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة، أي لعل جماعتهم ترجع.
وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجوّ مخصوصين من عموم {الذين فسقوا} في قوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها} الآية [السجدة: 20]، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري.
{وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ ذُكّرَ بآيَات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إنَّا منَ الْمُجْرمينَ مُنْتَقمُونَ (22)}.
عطف على جملة {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكّروا بها} [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: {أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] ليسوا كأولئك فانتُقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلمًا لأنهم يُذَكّرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويَلْغون فيها، فآيات الله مراد بها القرآن.
وجيء في عطف جملة {أعرضَ} بحرف {ثم} لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابنُ حرة ** يرى غمراتت الموت ثُم يزورها

أي: عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.
و{مَن} للاستفهام الإنكاري كقوله: {ومن أظلم ممن مَنَع مساجدَ الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114] أي: لا أظلم منه، أي لا أحَد أظلم منه لأنه ظلَم نفسه بحرمانها من التأمل فيما فيه نفعه، وظلَم الآيات بتعطيل نفعها في بعضض مَن أريد انتفاعهم بها، وظَلَم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظَلَم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.
وجملة {إنا من المجرمين منتقمون} مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن تفظيع ظلم الذي ذُكّر بآيات ربّه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم.
والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مَع أنهم ظالمون، وقد يقال: إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخولهم في الانتقام من المجرمين أحرويًّا وتصير جملة {إنا من المجرمين منتقمون} تذييلًا. اهـ.